بعزم وإصرار ظلَّ يتدافع بين الحشود بقوة عشرة رجال ،كي يلمس النعش المحمول فوق الأكتاف، والعرق يتصبب من جبينه محاكاة لتدفق عرق الجباه النازفة بالهتاف الحزين ،والأسف المرير على فقيدهم الغالي ..في زحمة اشتعال العواطف وهيجان الأحزان، كان النعش يتمايل نحو اليمين ونحو الشمال كأنه يؤدي رقصة مبتكرة ، وأحيانا تعلو مقدمته وأخرى تنخفض مع هدير الصدور وأناتها المحترقة ..أكثر من لكمة وركله أصابت جسده أثناء تدافع أمواج الناس ..لكن اللكمة الأخيرة التي أصابت رأسه أعادت إليه شيئًا من توازنه الذي غاب عنه منذ دخوله في موكب الجنازة المهيب، والناس تودع الحبيب الراحل الذي ترك ميراثًا فنيًا كبيرًا سيخلده التاريخ تراث أمة قلَّ أن تنجب مثيلا له ،فضجَّت بموته وسائل الإعلام ولبست الشوارع الليل حزنا ..وضع يده فوق مكان الألم وأسنانه تعضُّ على شفته السفلى بآهٍ مسموعة، فوجده مرتفعًا عن فروة الرأس قليلا ..فتح فمه بكلمات سباب لوسمعها من سبَّبَ له الوجع لخرج بروحه قبل دفن الراحل العظيم ..نظر إلى النعش متألما ،وراح يكيل السباب للمتمدد فيه ..ويلعن اللحظة التي خرج بها لوداع هذا الفاسق الذي لم تنجُ من أحضانه ممثلة قامت أمامه بدور البطولة ..وعادت إلى ذاكرته الأخبار التي قرأها عن سهراته ،ومجونه ومغامراته العاطفية مع تلك ،وتلك ،وتلك من الفنانات، والثريات ونساء المجتمع المخملي وحتى الخادمات ..ولكن الذي زاد وجعه وجعًا ، وماردغضبه انفلاتًا من قمقم الكبت ،هو إحساسه بالجوع الذي لازمه حياته أمينًا على عهده مع الفاقة، وهو الآن يقرص معدته كالسابق ،فلا يجد مايسد به رمقه بوجبة دسمة ولو مرة واحدة في العمر ، بينما كان الراحل يبعثر أمواله كيفما اتفق ويبث سمومه عبر مايقدمه من فنٍّ يدعى نبل الهدف وما يقدم من خلاله يخجل منه الأحرار..ازدادت ثورته هياجًا فراح يصرخ بصوت عالٍ إلى الجحيم ..إلى الجحيم ..ترتفع يداه أكثر كلما ارتفع صوته أكثر فأحس بنفسه يعلو فوق الأكتاف وأمواج الناس تتلاطم تحته بالهتاف .
بقلم
بنت البحر