انتابني ألم مفاجئ، و علمت أنني سأجهض. و رغم أنني كنت أرتقب ذلك، إلا أنني بكيت بمرارة.
منذ أخبرتني الطبيبة أنّ جنيني ميت و أنه سيسقط خلال أسبوع و أنا أحاول أن أستنفذ كل دموعي، لأكون قادرة على مواجهة وجع الروح و ألم الجسد. لكنني تفاجأت بالدموع تسيل من عيني غزيرة كأنها مخزّنة منذ ألف عام.
لماذا كنت أبكي؟
ربما كنت أتمسك بجنيني حتى آخر لحظة.
ربما اغتنمت انكساراتي فرصة و جود مبرر للبكاء لتخرج الآه قوية من أعماق أعماقي.
آه يا ولدي.
أ لم أستطع أن أمنحك الحياة كما تفعل سائر الأمهات؟
أ عجز قلبي الضعيف أن يهدي قلبك دقات تبعث فيه و فيك الحياة؟
أ عجزت أن أحتفظ بك في داخلي و أمنحك قوة تكسبك القدرة على مواجهة الحياة؟
أريد أن أسمع تلك الصرخة التي انتظرتها كثيرا: صرخة الحياة... حياتي أنا.
حياتي التي توقفت على رصيف الوجع تنتظر تلك الصرخة لتبدأ السير من جديد.
أه يا ولدي.
الآه كانت تخرج قوية من داخلي، و صرخاتي كانت تملأ أروقة المستشفى. صرخت الطبيبة في وجهي عدة مرات: تحملي يا مدام و كفي عن الصراخ.
و دون أن أرد عليها، ظللت غارقة في الصراخ و البكاء حتى اقتنعت هي و ممرضاتها أنني امرأة لا تحتمل الوجع.
لم أكن امرأة ضعيفة !
و لكنني امرأة تشرّبت الوجع كثيرا، و استنزفت الحياة كل قوتها !
لست ضعيفة بالفطرة. و لكن المواجع ظلّت تنهش جسدي حتى جعلتني امرأة ضعيفة.
كأن الطبيبة عجبت لأمري، وصفت الدواء للمرضات و غادرت ثم عادت بعد نصف ساعة لتجدني على نفس الدرجة من الوجع و الصراخ، فاستسلمت لأمري و غيّرت نبرة حديثها:
أنت صغيرة السن، و هذا أول حمل لك و ستنجبين غيره... بعد قليل سيؤول كل هذا الألم إلى النسيان.
و دون أن أكف عن البكاء كلمتها و عيناي شاخصتان إلى السماء كمن تكلم قدرها: و لكنني أكره الاجهاض !
- تكرهين الاجهاض و هذا أول حمل لك !
- أجهضت كثيرا، و احترقت كثيرا ! و خسرت أشياء كثيرة بسبب الإجهاض.
سيان عندي إجهاض طفل و إجهاض فكرة. فالطفل فكرة، و الفكرة حياة، و الحياة عندي طفل.
أجهضت كل أفكاري، و كل طموحاتي، و عشت بأفكار الآخرين، و حققت طموح الآخرين. عشت بجسد أجوف يرد صدى كل صوت يزرع في رأسه... و مرغمة عاش هذا الجسد خاليا من الأفكار.
عاش هذا الجسد خاليا إلا من فكرتي الأزلية. و طفلي كان فكرتي الأزلية التي نمت و عشّشت في رحم أفكاري.
مخطئ من يؤمن بشيء اسمه القوة. عندما يدوس الظلم على أحلامك، فلا مكان في قلبك إلا للضعف و الوجع.
مخطئ من يظن أن الوجع يُؤلف، فللوجع طعم مرّ يستحيل على الروح أن تألفه.
مخطئ من يظن أن مواجع الروح تخلد إلى النسيان، فالوجع لا يترك الروح و شأنها إلا عندما تخلد إلى شيء اسمه الموت.
و من يدري، لعل الروح بعد الموت تنفتح على طعم أمرّ للوجع؟
أحسست بالجنين يقترب من فراق جسدي. كالمجنونة كنت أضمّ رجليّ بقوة إلى بعضهما حتى لا يخرج و يتركني و حيدة.
أقاوم و يقاومني القدر.
و تندثر الأمومة.
ماء أصفر اللون مرّ الطعم يجتاح داخلي و يتدفق مع أنفاسي إلى الخارج. إنه علامة الفراق.
كنت أهدي: يا إلاهي و خالقي ! اجمع شتات هذا الجسد الصغير و أعده للحياة كما جمعت طير عيسى و منحته الروح.
إلاهي و خالقي ! أعد إليّ طفلي كما أعدت يوسف لأبيه.
جرح ينزف في أعماق الروح يجعلني أصرخ.
أصرخ ملء روحي الجوفاء. يتلاشى صوتي شيئا فشيئا. و أرحل.
............................................
فتحت عينيّ على لمسة دافئة. كان زوجي يحتوي بكفّيه الضخمتين يدي اليمنى: اضطروا لحقنك بمنوّم لتسكين آلامك.
جرى الدمع من عيني ساخنا كما كان قبل الحقنة، و قبل النوم:
تسكين ألامي؟ الوجع يسكن هنا في صدري. إنه يسكن روحي، و يجري في عروقي، فهلاّ أراحو الروح و أخرجوها من هذا الجسد.
إذا خدعوا جسدي بحقنة، فلن يخدعوا روحي و لن يطفئوا مواجعها ما لم يقتلوا الاجهاض و يعيدوا إلى هذا الجسد الخاوي أفكاره.
ضغط على يدي بقوة: و أنا ... ألست فكرتك التي واجهت الجميع من أجلها؟ أنا هنا و لن أغادر داخلك، و لن أعذب روحك. أنا زوجك و حبيبك، أنا فكرتك غير القابلة للإجهاض.
]